الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
.سُورَةُ الْعَصْر: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم..تفسير الآية رقم (1): {وَالْعَصْرِ (1)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}.الْعَصْرُ: اسْمٌ لِلزَّمَنِ كُلِّهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ.وَلِذَا اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، حَيْثُ لَمْ يُبَيَّنْ هُنَا.فَقِيلَ: هُوَ الدَّهْرُ كُلُّهُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ، أُمَّةٌ تَذْهَبُ وَأُمَّةٌ تَأْتِي، وَقَدَرٌ يَنْفُذُ، وَآيَةٌ تَظْهَرُ، وَهُوَ هُوَ لَا يَتَغَيَّرُ، لَيْلٌ يَعْقُبُهُ نَهَارٌ، وَنَهَارٌ يَطْرُدُهُ لَيْلٌ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَجَبٌ.كَمَا قِيلَ:مَوْجُودٌ شَبِيهُ الْمَعْدُومِ، وَمُتَحَرِّكٌ يُضَاهِي السَّاكِنَ.كَمَا قِيلَ:فَهُوَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ، سَوَاءٌ فِي مَاضِيهِ لَا يَعْلَمُ مَتَى كَانَ، أَوْ فِي حَاضِرِهِ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ يَنْقَضِي، أَوْ فِي مُسْتَقْبَلِهِ.وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا جَاءَ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَرْفُوعًا مِنْ قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ: «وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ». وَحُمِلَ عَلَى التَّفْسِيرِ إِنْ لَمْ يَصِحَّ قُرْآنًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقِيلَ الْعَصْرُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: وَالْعَصْرَانِ أَيْضًا: الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ.كَمَا قِيلَ: وَالْمَطْلُ: التَّسْوِيفُ وَتَأْخِيرُ الدَّيْنِ.كَمَا قِيلَ: وَقِيلَ: إِنَّ الْعَشِيَّ مَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: هُوَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، لِتَعْظِيمِ الْيَمِينِ فِيهِ، وَلِلْقَسَمِ بِالْفَجْرِ وَالضُّحَى.وَقِيلَ: هُوَ صَلَاةُ الْعَصْرِ لِكَوْنِهَا الْوُسْطَى.وَقِيلَ: عَصْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ زَمَنُ أُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عَصْرَ عُمُرِ الدُّنْيَا.وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ أَقْرَبَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا قَوْلَانِ: إِمَّا الْعُمُومُ بِمَعْنَى الدَّهْرِ لِلْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، إِذْ أَقَلُّ دَرَجَاتِهَا التَّفْسِيرُ، وَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ بَقِيَّةَ الْأَقْوَالِ.وَإِمَّا عَصْرُ الْإِنْسَانِ أَيْ عُمُرُهُ وَمُدَّةُ حَيَاتِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكَسْبِ وَالْخُسْرَانِ لِإِشْعَارِ السِّيَاقِ، وَلِأَنَّهُ يَخُصُّ الْعَبْدَ فِي نَفْسِهِ مَوْعِظَةً وَانْتِفَاعًا.وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَكْتَنِفُ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ سُورِ التَّكَاثُرِ قَبْلَهَا، وَالْهُمَزَةِ بَعْدَهَا، إِذِ الْأُولَى تَذُمُّ هَذَا التَّلَهِّيَ وَالتَّكَاثُرَ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، حَتَّى زِيَارَةِ الْمَقَابِرِ بِالْمَوْتِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ هُوَ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ.وَسُورَةُ الْهُمَزَةِ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى تَقْرِيبًا، فِي: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [104/ 2- 3]فَجَمْعُ الْمَالِ وَتَعْدَادُهُ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَحَيَاتُهُ مَحْدُودَةٌ، وَلَيْسَ مُخَلَّدًا فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ وَعَمَلَ الصَّالِحَاتِ مُرْتَبِطٌ بِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ.وَعَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَصْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْعُمُومُ لِشُمُولِهِ الْجَمِيعَ وَلِلْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، وَهَذَا أَقْوَاهَا.وَإِمَّا حَيَاةُ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّهُ أَلْزَمُ لَهُ فِي عَمَلِهِ، وَتَكُونُ كُلُّ الْإِطْلَاقَاتِ الْأُخْرَى مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ، وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}:لَفْظُ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا، فَإِنَّ أَلْ فِيهِ جَعَلَتْهُ لِلْجِنْسِ.وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِرَارًا، فَهُوَ شَامِلٌ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى.وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالْكَافِرِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِلْعُمُومِ.وَ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْخُسْرُ: قِيلَ: هُوَ الْغَبْنُ، وَقِيلَ: النَّقْصُ، وَقِيلَ: الْعُقُوبَةُ، وَقِيلَ: الْهَلَكَةُ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ.وَأَصْلُ الْخُسْرِ وَالْخُسْرَانِ كَالْكُفْرِ وَالْكُفْرَانِ، النَّقْصُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا نَوْعَ الْخُسْرَانِ فِي أَيِّ شَيْءٍ، بَلْ أَطْلَقَ لِيَعُمَّ، وَجَاءَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، لِيُشْعِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُسْتَغْرِقٌ فِي الْخُسْرَانِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.وَلَوْ نَظَرْنَا إِلَى أَمْرَيْنِ وَهُمَا الْمُسْتَثْنَى وَالسُّورَةُ الَّتِي قَبْلَهَا، لَاتَّضَحَ هَذَا الْعُمُومُ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُسْتَثْنَى يَشْمَلُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: عَدَمُ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَعَدَمُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْفَاسِدُ، وَعَدَمُ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَهُوَ انْعِدَامُ التَّوَاصِي كُلِّيَّةً أَوِ التَّوَاصِي بِالْبَاطِلِ، وَعَدَمُ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَهُوَ إِمَّا انْعِدَامُ التَّوَاصِي كُلِّيَّةً أَوِ الْهَلَعُ وَالْجَزَعُ.وَالسُّورَةُ الَّتِي قَبْلَهَا تَلَهِّي الْإِنْسَانِ بِالتَّكَاثُرِ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ، بُغْيَةَ الْغِنَى وَالتَّكَثُّرِ فِيهِ، وَضِدُّهُ ضَيَاعُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَهُوَ الْخُسْرَانُ.فِعْلَيْهِ يَكُونُ الْخُسْرَانُ فِي الدِّينِ مِنْ حَيْثُ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ، وَفِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَشْمَلُهُ الْإِيمَانُ فِي الِاصْطِلَاحِ وَالتَّلَهِّي فِي الْبَاطِلِ وَتَرْكُ الْحَقَّ، وَفِي الْهَلَعِ وَالْفَزَعِ.وَمِنْ ثَمَّ تَرْكُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْعَبْدِ وَفَلَاحُهُ وَصَلَاحُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نُجْمِلُهُ فِي الْآتِي:أَمَّا الْخُسْرَانُ بِالْكُفْرِ. فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [39/ 65].وَقَوْلِهِ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} أَيْ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا لِهَذَا اللِّقَاءِ، وَقَصَرُوا أَمْرَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَضَيَّعُوا أَنْفُسَهُمْ، وَحَظَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ.وَأَمَّا الْخُسْرَانُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [7/ 9]، لِأَنَّ الْمَوَازِينَ هِيَ مَعَايِيرُ الْأَعْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [99/ 7].وَمِثْلُهُ: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [4/ 119]، لِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [58/ 19]، أَيْ بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.وَأَمَّا الْخُسْرَانُ بِتَرْكِ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ فَلَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، وَالْحَقُّ هُوَ الْإِسْلَامُ بِكَامِلِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [3/ 85].وَأَمَّا الْخُسْرَانُ بِتَرْكِ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ وَالْوُقُوعِ فِي الْهَلَعِ وَالْفَزَعِ، فَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [22/ 11].تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فِي حَقِيقَةِ خُسْرَانِ الْإِنْسَان اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ هُوَ عُمُرُهُ؛ كُلِّفَ بِإِعْمَالِهِ فِي فَتْرَةِ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ لَهُ كَالسُّوقِ. فَإِنْ أَعْمَلَهُ فِي خَيْرٍ رَبِحَ، وَإِنْ أَعْمَلَهُ فِي شَرٍّ خَسِرَ.وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الْآيَةَ [9/ 111].وَقَوْلُهُ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الْآيَةَ [61/ 10- 11].وَفِي الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ».وَفِي آخِرِهِ «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ رَأْسَ مَالِ الْإِنْسَانِ عُمُرُهُ.وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْعُمُرِ جَاءَ قَسِيمَ الرِّسَالَةِ وَالنَّذَارَةِ فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [35/ 37].وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى.وَهَدَى كُلَّ إِنْسَانٍ النَّجْدَيْنِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَنْزِلَةً فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلَةً فِي النَّارِ.فَمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا كَانَ مَآلُهُ إِلَى مَنْزِلَةِ الْجَنَّةِ، وَسَلِمَ مِنْ مَنْزِلَةِ النَّارِ، وَمَنْ كَفَرَ كَانَ مَآلُهُ إِلَى مَنْزِلَةِ النَّارِ، وَتَرْكِ مَنْزِلَتِهِ فِي الْجَنَّةِ.كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْقَبْرِ: «أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ فِي قَبْرِهِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، وَيُقَالُ لَهُ: ذَاكَ مَقْعَدُكُ مِنَ النَّارِ لَوْ لَمْ تُؤْمِنْ ثُمَّ يُقْفَلُ عَنْهُ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَنْزِلُكَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَيَقُولُ: رَبِّ، أَقِمِ السَّاعَةَ».وَإِنْ كَانَ كَافِرًا كَانَ عَلَى الْعَكْسِ تَمَامًا، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ مَنْزِلَتَهُ فِيهَا، وَتَبْقَى مَنَازِلُ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ خَالِيَةً فَيَتَوَارَثُهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَتَبْقَى مَنَازِلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ خَالِيَةً، فَتُوَزَّعُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، وَهُنَا يَظْهَرُ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ؛ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ مَنْزِلَةً فِي الْجَنَّةِ وَذَهَبَ إِلَى مَنْزِلَةٍ فِي النَّارِ، فَهُوَ بِلَا شَكٍّ خَاسِرٌ، وَإِذَا تَرَكَ مَنْزِلَتَهُ فِي الْجَنَّةِ لِغَيْرِهِ وَأَخَذَ هُوَ بَدَلًا عَنْهَا مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ فِي النَّارِ، كَانَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ.أَمَّا فِي غَيْرِ الْكَافِرِ وَفِي عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْخُسْرَانَ فِي التَّفْرِيطِ بِحَيْثُ لَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَنَلْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ يُحِسُّ بِالْخُسْرَانِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ، وَلَمْ يُنَافِسْ فِعْلَ الْخَيْرِ، لِيَنَالَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ.فَهَذِهِ السُّورَةُ فِعْلًا دَافِعٌ لِكُلِّ فَرْدٍ إِلَى الْجِدِّ وَالْعَمَلِ الْمُرْبِحِ، وَدَرَجَاتُ الْجَنَّةِ رَفِيعَةٌ، وَمَنَازِلُهَا عَالِيَةٌ مَهْمَا بَذَلَ الْعَبْدُ مِنْ جُهْدٍ، فَإِنَّ أَمَامَهُ مَجَالٌ لِلْكَسْبِ وَالرِّبْحِ، نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ وَالْفَلَاحَ.وَقَدْ قَالُوا: لَا يَخْرُجُ إِنْسَانٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا حَزِينًا، فَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَعَلَى إِسَاءَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَلِتَقْصِيرِهِ، وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [41].فَالْخَوْفُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ أَمَامَهُمْ، وَالْحُزْنُ عَلَى الْمَاضِي خَلْفَهُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.وَيُبَيِّنُ خَطَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَشَعُرَ بِأَيَّامِهِ الْمَعْدُودَةِ وَسَاعَاتِهِ الْمَحْدُودَةِ، وَأَرَادَ زِيَادَةَ يَوْمٍ فِيهَا، يَتَزَوَّدُ مِنْهَا أَوْ سَاعَةٍ وَجِيزَةٍ يَسْتَدْرِكُ بَعْضًا مِمَّا فَاتَهُ، لَمْ يَسْتَطِعْ لِذَلِكَ سَبِيلًا، فَيَشْعُرُ بِالْأَسَى وَالْحُزْنِ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي ضَاعَتْ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا كَسْبٍ وَلَا فَائِدَةٍ، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ مُرْبِحَةً لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا الْإِنْسَانُ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».أَيْ: أَنَّهُمَا يَمْضِيَانِ لَا يَسْتَغِلُّهُمَا فِي أَوْجِهِ الْكَسْبِ الْمُكْتَمِلَةِ، فَيُفَوَّتَانِ عَلَيْهِ بِدُونِ عِوَضٍ يُذْكَرُ، ثُمَّ يَنْدَمُ وَلَاتَ حِينَ مَنْدَمٍ.كَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا تَنْبِيهٌ:فِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ تَقْبِيحُ التَّلَهِّي بِالتَّكَاثُرِ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ سَبَبَهُ الْجَهْلُ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَمَا أَلْهَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى بَاغَتَهُمُ الْمَوْتُ.وَهُنَا إِشْعَارٌ أَيْضًا بِأَنَّ سَبَبَ هَذَا الْخُسْرَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْإِنْسَانُ، هُوَ الْجَهْلُ الَّذِيُُ يَجُرُّ إِلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَيُسَاعِدُ عَلَى هَذَا قَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَطُولُ الْأَمَلِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [57/ 16].تَنْبِيهٌ آخَرُ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، نَصَّ عَلَى الْإِنْسَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ كَالْإِنْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [46/ 18].وَتَقَدَّمَ بَيَانُ تَكْلِيفِ الْجِنِّ بِالدَّعْوَةِ وَاسْتِجَابَتِهِمْ لَهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا. .تفسير الآية رقم (3): {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.هَذَا هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْإِنْسَانِ الْمُتَقَدِّمِ، مِمَّا دَلَّ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْإِيمَانُ لُغَةً التَّصْدِيقُ وَشَرْعًا الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِأَرْكَانِ الْإِيمَانِ السِّتَّةِ، فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ.{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ.وَلِذَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ، وَمَقَالَاتُهُمْ مَعْرُوفَةٌ.وَالْجُمْهُورُ: أَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ.فَالْعَمَلُ دَاخِلٌ فِيهِ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ الْعَمَلَ شَرْطٌ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا، أَيْ أَنَّ الْإِيمَانَ يَصْدُقُ بِالِاعْتِقَادِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ شَرْطٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْإِيمَانِ، إِذَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ مِنَ الْعَمَلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِكَوْنِ الْإِيمَانِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَدُّ الِاعْتِقَادِ وَالنُّطْقِ، وَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْعَبْدُ مِنَ الْعَمَلِ، قِصَّةُ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ عِنْدَ بَدْءِ الْمَعْرَكَةِ، وَقَاتَلَ، وَاسْتَشْهَدَ وَلَمْ يُصَلِّ لِلَّهِ رَكْعَةً، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ.وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِقَادِ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، كَمَا كَانَ يَعْتَقِدُ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَلِمَةً يُحَاجُّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَقَدَ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ.وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُفَصَّلَةً.وَالصَّالِحَاتُ: جَمْعُ صَالِحَةٍ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهُ وَشُرُوطُ كَوْنِ الْعَمَلِ صَالِحًا بِأَدِلَّتِهِ مِنْ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ، وَعَمَلَهُ صَاحِبُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ وَكَوْنِهِ صَادِرًا مِنْ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ، إِلَخْ.وَقَوْلُهُ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}:يُعْتَبَرُ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ.وَقِيلَ: إِنَّ التَّوَاصِيَ أَنْ يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْحَقِّ.وَقِيلَ: الْحَقُّ كُلُّ مَا كَانَ ضِدَّ الْبَاطِلِ، فَيَشْمَلُ عَمَلَ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكَ الْمَعَاصِي.وَاعْتَبَرَ هَذَا أَسَاسًا مِنْ أُسُسِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، بِقَرِينَةِ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، أَيْ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.وَقِيلَ: الْحَقُّ هُوَ الْقُرْآنُ؛ لِشُمُولِهِ كُلَّ أَمْرٍ وَكُلَّ نَهْيٍ، وَكُلَّ خَيْرٍ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْقُرْآنِ: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [17/ 105].وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [39/ 2].وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتُهُ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَقِّ تَشْمَلُ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا، أُصُولَهَا وَفُرُوعَهَا، مَاضِيَهَا وَحَاضِرَهَا، مِنْ ذَلِكَ مَا وَصَّى اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَعُمُومًا، مِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [42/ 13].وَإِقَامَةُ الدِّينِ الْقِيَامُ بِكُلِّيَّتِهِ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ عَمَلَ الرُّسُلِ لِأُمَمِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَنَفَّذَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [2/ 132].وَمِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ يَعْقُوبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [2/ 133].فَهَذَا تَوَاصِي الْأُمَمِ بِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ، وَكَذَلِكَ بِالْعِبَادَةِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [19/ 31- 32].وَكَذَلِكَ الْحَالَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مَاثِلَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، لِتَرَابُطِ الْأُسْرَةِ، فَفِي الْوَالِدَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [31/ 14- 15].وَفِي الْأَبْنَاءِ قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [4/ 11].وَفِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ أَوَامِرٌ وَنَوَاهِي، عِبَادَاتٌ وَمُعَامَلَاتٌ، جَاءَتْ آيَاتُ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي قَالَ عَنْهَا ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمَهُ فَلْيَقْرَأْ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [6/ 151- 153].تِلْكَ الْوَصَايَا الْجَامِعَةُ أَبْوَابَ الْخَيْرِ الْمُوَصِّدَةُ أَبْوَابَ الشَّرِّ وَالْمُذَيَّلَةُ بِهَذَا التَّبْيِينِ وَالتَّعْرِيفِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}.وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَرْبِطَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، لَكَانَتِ النَّتِيجَةُ كَالْآتِي فِي قَوْلِهِ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، إِحَالَةً عَلَى تِلْكَ الْوَصَايَا، وَهِيَ شَامِلَةٌ جَامِعَةٌ وَمُعَنْوَنٌ لَهَا بِأَنَّهَا صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ.فَكَأَنَّ قَوْلَهُ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ: وَتَوَاصَوْا بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَاسْتَقِيمُوا عَلَيْهِ.ثُمَّ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [1/ 6]، وَهَذَا صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ فَاتَّبِعُوهُ.فَكَانَتْ سُورَةُ الْعَصْرِ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوَاصِي بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَاتِّبَاعِهِ، وَيَأْتِي عَقِبَهَا قَوْلُهُ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [103/ 3]، بِمَثَابَةِ التَّثْبِيتِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِذِ الصَّبْرُ لَازِمٌ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَاتِ، كَمَا هُوَ لَازِمٌ لِتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ.وَتِلْكَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ جَمَعَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا فِعْلًا وَتَرْكًا، وَكَذَلِكَ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَقُولُهُ دُعَاةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالدَّعْوَةَ إِلَى الْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِهِ، فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَالِبًا مَنْ يَقُومُ بِهِ يَتَعَرَّضُ لِأَذَى النَّاسِ، فَلَزِمَهُمُ التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يُوصِيهِ وَجَامِعًا فِي وَصِيَّتِهِ وَصِيَّةَ سُورَةِ الْعَصْرِ إِذْ قَالَ: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [31/ 17].وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ قَوَاعِدِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالتَّفْصِيلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [5/ 105]، فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.فَصَارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِحَقٍّ جَامِعَةً لِأُصُولِ الرِّسَالَةِ.كَمَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ تَأَمَّلَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ.قَوْلُهُ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} جَاءَ الْحَثُّ عَلَى التَّوَاصِي بِالرَّحْمَةِ أَيْضًا مَعَ الصَّبْرِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [90/ 17].وَبِهَذِهِ الْوَصَايَا الثَّلَاثِ: بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ وَالتَّوَاصِي بِالْمَرْحَمَةِ، تَكْتَمِلُ مُقَوِّمَاتُ الْمُجْتَمَعِ الْمُتَكَامِلِ قِوَامُهُ الْفَضَائِلُ الْمُثْلَى، وَالْقِيَمُ الْفُضْلَى.لِأَنَّ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ إِقَامَةَ الْحَقِّ، وَالِاسْتِقَامَةَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.وَبِالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، يَسْتَطِيعُونَ مُوَاصَلَةَ سَيْرِهِمْ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ، وَيَتَخَطَّوْنَ كُلَّ عَقَبَاتٍ تُوَاجِهُهُمْ.وَبِالتَّوَاصِي بِالْمَرْحَمَةِ: يَكُونُونَ مُرْتَبِطِينَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَتِلْكَ أُعْطِيَاتٌ لَمْ يُعْطِهَا إِلَّا الْقُرْآنُ وَأَعْطَاهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُوجَزَةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.تَنْبِيهٌ:قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْخُسْرَانِ، وَفَوْزِهِمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِيمَانِ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ أَنْفُسِهِمْ بَلْ تَعَدَّوْا إِلَى غَيْرِهِمْ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى مَا فَازُوا بِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ» اهـ. مُلَخَّصًا.وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى قَوْلِهِ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [41- 35].فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ إِزَاءَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ.قَوْمٌ آمَنُوا وَقَالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.وَقَوْمٌ ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُمْ إِلَى دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ وَهُمْ أَحْسَنُ قَوْلًا بِلَا شَكٍّ.وَقَوْمٌ عَادُوا الدُّعَاةَ وَأَسَاءُوا إِلَيْهِمْ.ثُمَّ بَيَّنَ مَوْقِفَ الدُّعَاةِ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسِيئِينَ فِي غُضُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ} أَيْ: إِسَاءَةُ الْمُسِيئِينَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَيُصْبِحُوا أَوْلِيَاءَ لَكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنِ ارْتَفَعَ إِلَيْهَا وَسَلَكَ مَسْلَكَهَا إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.تَنْبِيهٌ:كُنْتُ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ قَوْلَهُ لِلدُّعَاةِ عَدُوَّانِ: أَحَدُهُمَا مِنَ الْإِنْسِ. وَالْآخَرُ مِنَ الشَّيَاطِينِ.وَقَدْ أَرْشَدَنَا اللَّهُ لِكَيْفِيَّةِ التَّغَلُّبِ عَلَيْهِمَا وَاكْتِفَاءِ شَرِّهِمَا.أَمَّا عَدَاوَةُ الْإِنْسِ فَبِمُقَابَلَةِ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ، فَيُصْبِحُ وَلِيًّا حَمِيمًا.وَأَمَّا عَدُوُّ الْجِنِّ فَبِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [41/ 36].نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ.وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الشَّيْخَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ قَدَّمَ مَبْحَثَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [5/ 105].وَذَكَرَ سُورَةَ الْعَصْرِ عِنْدَهَا، وَعَقَدَ مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةً فِي مَنْهَجِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، بِمَا لَا غِنَى عَنْهُ.
|